فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{قَالَ موسى} استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال لهما موسى عليه السلام؟ فقيل: قال لهم على سبيل الاستفهام الإنكاري التوبيحي: {أَتقُولُونَ لِلْحَقّ} الذي هو أبعد شيء من السحر الذي هو الباطل البحت: {لَمَّا جَاءكُمْ} أي حين مجيئه إياكم ووقوفكم عليه وهو الذي يقتضيه ما أشير إليه آنفًا، أو من أول الأمر من غير تأمل وتدبر كما قيل، وإياما كان فهو مما ينافي القول الذي في حيز الاستفهام، والمقول محذوف ثقة بدلالة ما قبل وما بعد عليه وإيذانًا بأنه مما لا ينبغي أن يتفوه به ولو على نهج الحكاية، أي أتقولون له ما تقولون من أنه سحر مبين؟ يعني به أنه مما لا يمكن أن يقوله قائل ويتكلم به متكلم، وجوز أن يكون مقول القول قوله عز وجل: {أَسِحْرٌ هذا} على أن مقصودهم بالاستفهام تقريره عليه السلام لا الاستفهام الحقيقي لأنهم قد بتوا القول بأنه سحر فكيف يستفهمون عنه، والمحكي في أحد الموضعين مفهوم قولهم ومعناه وإلا فالقصة واحدة والصادر فيها بحسب الظاهر إحدى المقالتين ولا يخفي ضعفه، وأن يكون القول بمعنى العيب والطعن من قولهم: فلأن يخاف القالة وبين الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوءه، ونظيره الذكر في قوله تعالى: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إبراهيم} [الأنبياء: 60] وحينئذ يستغني عن المفعول، واللام لبيان المطعون فيه كما في قوله تعالى: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] أي أتعيبونه وتطعنون فيه، وعلى هذا الوجه وكذا الوجه الأول يكون قول سبحانه: {أَسِحْرٌ هذا} إنكارًا مستأنفًا من جهة موسى عليه السلام لكونه سحرًا وتكذيب لقولهم وتوبيخ لهم عليه إثر توبيخ وتجهيل إثر تجهيل، أما على الوجه المتقدم فظاهر، وأما على الوجه الأخير فوجه إيثار إنكار كونه سحرًا على إنكار كونه معيبًا بأن يقال: أفيه عيب؟ حسبما يقتضيه ظاهر الإنكار السابق التصريح بالرد عليهم في خصوصية ما عابوه به بعد التنبيه بالإنكار الأول على أنه ليس فيه شائبة عيب ما، وتقديم الخبر للإيذان بأنه مصب الإنكار، وما في اسم الإشارة من معنى القرب لزيادة تعيين المشار إليه واستحضار ما فيه من الصفات الدالة على كونه آية باهرة من آيات الله تعالى المنادية على امتناع كونه سحرًا، أي أسحر هذا الذي أمره واضح مكشوف وشأنه مشاهد معروف بحيث لا يرتاب فيه أحد ممن له عين مبصرة، وقوله سبحانه: {وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون} تأكيد للإنكار السابق وما فيه من التوبيخ والتجهيل، وقد استلزم القول بكونه سحرًا القول بكون من أتى به ساحرًا، والجملة في موضع الحال من ضمير المخاطبين والرابط الواو بلا ضمير كما في قوله:
جاء الشتاء ولست أملك عدة

وقولك: جاء زيد ولم تطلع الشمس، أي أتقولون للحق إنه سحر والحال أنه لا يفلح فاعله أي لا يظفر بمطلوب ولا ينجو من مكروه وأنه قد أفلحت وفزت بالحجة ونجوت من الهلكة، وجملة: {أَسِحْرٌ هذا} معترضة بين الحال وذيها لتأكيد الإنكار السابق ببيان استحالة كونه سحرًا بالنظر إلى ذاته قبل بيان استحالته بالنظر إلى صدوره منه عليه السلام، ومن جعلها مقول القول أبقى الحالية على حالها ولا اعتراض عنده، وكان المعنى على ذلك أتحملوني على الإقرار بأنه سحر وما أنا عليه من الفلاح دليل على أن بينه وبين السحر أبعد مما بين المشرق والمغرب، وقيل: يجوز أن تكون هذه الجملة كالتي قبلها في حيز قولهم وهي حالية أيضًا لكن على نمط آخر والاستفهام مصروف إليها، والمعنى أجئتنا بسحر تطلب به الفلاح والحال أنه لا يفلح الساحر، أو هم يتعجبون من فلاحه وهو ساحر، ولا يخفى أن السباق والسياق يأبيان هذا التجويز فلا ينبغي حمل النظم الجليل على ذلك، وفي إرشاد العقل السليم أن تجويز أن يكون الكل مقول القول مما لا يساعده النظم الكريم أصلًا، أما أولًا فون ما قالوا هو الحكم بأنه سحر من غير أن يكون فيه دلالة على ما تعسف فيه من المعنى بوجه من الوجوه، فصرف جوابه عليه السلام عن صريح ما خاطبوه به إلى ما لا يفهم منه مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله؛ وكون ذلك اعراضًا عن رد الإنكار السابق إلى رد ما هو أبلغ منه في الإنكار لا أراه يحسن الالتفات هنا إلى قبول ذلك التجويز في كلام الله تعالى العزيز.
وأما ثانيًا فلأن التعرض لعدم افلاح السحرة على الإطلاق من وظائف من يتمسك بالحق المبين دون الكفرة المتشبثين بأذيال بعض منهم في معارضته عليه السلام ولو كان ذلك من كلامهم لناسب تخصيص عدم الإفلاح بمن زعموه ساحرًا بناء على غلبة من يأتون به من السحرة، والاعتذار بأن التشبث بأذيال بعض السحرة لا ينافي التعرض لعدم إفلاحهم على الإطلاق لجواز أن يكون اعتقادهم عدم الإفلاح مطلقًا وتشبثهم بعد بما تشبثوا به من باب تلقي الباطل بالباطل لا أراه إلا من باب تشبث الغريق بالحشيش، وأما ثالثًا فلأن قوله عز وجل: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا} إلخ مسوق لبيان أنه عليه السلام ألقمهم الحجر فانقطعوا عن الإتيان بكلام له تعلق بكلامه عليه السلام فضلًا عن الجواب الصحيح واضطروا إلى التشبث بذيل التقليد الدي هو دأب كل عاجز محجوج وديدن كل معالج لجوج على أنه استئناف وقع جوابًا عما قبله من كلامه صلى الله عليه وسلم على طريقة: {قَالَ موسى} [يونس: 77] كما أشير إليه كأنه قيل: فماذا قالوا لموسى عليه السلام حين قال لهم ما قال؟ فقيل: قالوا عاجزين عن المحاجة: أجئتنا: {لِتَلْفِتَنَا} أي لتصرفنا، وبين اللفت والفتل مناسبة معنوية واشتقاقية وقد نص غير واحد على أنهما أخوان وليس أحدهما مقلوبًا من الآخر كما قال الأزهري: {عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا} أي من عبادة غير الله تعالى، ولا ريب في أن ذلك إنما يتسنى بكون ما ذكر من تتمة كلامه عليه السلام على الوجه الذي شرح إذ على تقدير كونه محكيًا من قبلهم يكون جوابه عليه السلام خاليًا عن التبكيت الملجئ لهم إلى العدول عن سنن المحاجة، ولا ريب في أنه لا علاقة بين قولهم: {أَجِئْتَنَا} إلخ وبين إنكاره عليه السلام لما حكي عنهم مصححة لكونه جوابًا عنه، وهذا ظاهر إلا على من حجب عن إدراك البديهيات، وبالجملة الحق أن لا وجه لذلك التجويز بوجه والانتصار له من الفضول كما لا يخفى: {وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياء} أي الملك كما ريو عن مجاهد فهو من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم، وعن الزجاج أنه إنما سمي الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا، وقيل: أي العظمة والتكبر على الناس باستتباعهم.
وقرأ حماد بن يحيى عن أبي بكر وزيد عن يعقوب: {يَكُونَ} بالياء التحتانية لأن التأنيث غير حقيقي مع وجود الفاصل.
{فِى الأرض} أي أرض مصر، وقيل: أريد الجنس، والجار متعلق بتكون أو بالكبرياء أو بالاستقرار في لكما لوقوعه خبرًا أو بمحذوف وقع حالًا من: {الكبرياء} أو من الضمير في: {لَّكُمَا} لتحمله إياه: {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} أي بمصدقين فيما جئتما به أصلًا، وفيه تأكيد لما يفهم من الإنكار السابق، والمراد بضمير المخاطبين موسى وهارون عليهما السلام، وإنما لم يفردوا موسى عليه السلام بالخطاب هنا كما أفردوه به فيما تقدم لأنه المشافه لهم بالتوبيخ والإنكار تعظيمًا لأمر ما هو أحد سبى الأعراض معنى ومبالغة في إغاظة موسى عليه السلام وإقناطه عن الإيمان بما جاء به، وفي إرشاد العقل السليم أن تثنية الضمير في هذين الموضعين بعد أفراده فيما تقدم من المقامين باعتبار شمول الكبرياء عليهما السلام واستلزام التصديق لأحدهما التصديق للآخر، وأما اللفت والمجيء له فحيث كانا من خصائص صاحب الشريعة أسند إلى موسى عليه السلام خاصة انتهى فتدبر. اهـ.

.قال القاسمي:

{قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ} أي: على وجه لم يترك لكم شبهة مقالتكم الحمقى من أنه سحر، فحذف المحكي المقول لدلالة الكلام عليه. ثم قال: {أَسِحْرٌ هَذَا} استفهام إنكار من قول موسى لا من قولهم. فهو مستأنف لإنكار كونه سحرًا، وتكذيب لقولهم، وتوبيخ لهم على ذلك إثر توبيخ. وليس: {أَسِحْرٌ هَذَا} مقولهم، لأنهم بتوا القول بأنه سحر، فكيف يستفهمون عنه؟- كذا قيل-.
ولا أرى مانعًا من أن يكون مقولهم، والهمزة وسطت مزيدة لتكون مؤكدة لما قبلها من الاستفهام، ومن لطائفها الاحتراس عن إيهام فاعلية سحر لـ: {جَاءكُمْ} بادئ بدء، وأسلوب القرآن فوق كل أسلوب. أو الهمزة ومدخولها من مقولهم لقولهم الذي بتوا عليه أمرهم. ثم رأيت الناصر في الانتصاف أشار لهذا حيث قال: وأما القراءة الثانية- يعني قراءة {آالسحر}- على الاستفهام ففيها- والله أعلم- إرشاد إلى أن قول موسى أولًا: {أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا} حكاية لقولهم، ويكون: {أَسِحْرٌ هَذَا} هو الذي قالوه، ولا يناقض ذلك حكاية الله عنهم أنهم قالوا: {إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} وذلك إما لأنهم قالوا الأمرين جميعًا، بدؤوا بالاستفهام على سبيل الاستهتار بالحق والاستهزاء بكونه حقًا، والاستهزاء بالحق إنكار له، بل قد يكون الاستفهام في بعض المواطن أبتَ من الإخبار. ألا ترى أنهم يقولون في قوله: أأنت أم سالم، أبلغ في البت من قوله مخبرًا (أنت أم سالم) ثم ثنوا بصيغة الخير الخاصة ببت الإنكار، ودعوى أنه سحر، فقالوا: {إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} فحكى الله تعالى عنهم هذا القول الثاني، ووبخهم موسى على قولهم الأول، ومعنى العبارتين ومآلهما واحد. وإما ألا يكونوا قالوا سوى: {أَسِحْرٌ هَذَا} على سبيل الإنكار حسبما تقدم، فحكاه الله تعالى عنهم بمآله؛ لأنه يعلم أن مرادهم من الاستفهام الإنكار، وبتَّ القول أنه سحر، وحكى موسى عليه السلام قولهم بلفظه، ولم يؤده بعبارة أخرى. وحكاية القصص المتلوة في الكتاب العزيز بصيغ مختلفة، لا محمل لها سوى أنها معان منقولة إلى اللغة العربية، فيترجم عنها بالألفاظ المترادفة المتساوية المعاني.
وحاصل هذا البحث أن قول موسى عليه السلام: {أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا} إنما حكى فيه قولهم، ويرشد إلى ذلك أنه كافأهم عند ما أتوا بالسحر بمثل مقالتهم مستفهمًا، فقال: ما جئتم به آالسحر (على قراءة الاستفهام) قرضًا بوفاء على السواء، والذي يحقق لك أن الاستفهام والإخبار في مثل هذا المعنى مؤداهما واحد أن الله تعالى حكى قول موسى عليه السلام: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر} على الوجهين: الخبر والاستفهام، على ما اقتضته القراءتان وهو قول واحد، دل أن مؤدى الأمرين واحد، ضرورة صدق الخبر.
وإنما حمل الزمخشري على تأويل القول بالتعييب أو إضمار مفعول {تقولون} استشكال وقوع الاستفهام محكيًا بالقول، والمحكى عنهم الخبر، وقد أوضحنا أن لا تنافر ولا تنافي بين الأمرين.
قال الناصر: فشد بهذا الفضل عرى التمسك، فإنه من دقائق النكت، والله الموفق.
وقوله تعالى: {وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} من كلام موسى قطعًا، أتى به تقريرًا لما سبق؛ لأنه لما استلزم كون الحق سحرًا، كون من أتى به ساحرًا، أكد الإنكار السابق وما فيه من التوبيخ والتجهيل بذلك.
{قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [78].
{قَالُواْ} أي: لموسى: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا} أي: لتصرفنا: {عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} يعنون عبادة الأصنام: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء} أي: الملك والسلطان: {فِي الأَرْضِ} أي: أرض مصر: {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} أي: لتبقى عزتنا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا}
{ثم} للتراخي الرتبي لأنّ بعثة موسى وهارون عليهما السلام كانت أعظم من بعثة من سبقهما من الرسل، وخصَّت بعثة موسى وهارون بالذكر لأنها كانت إنقلابًا عظيمًا وتطورًا جديدًا في تاريخ الشرائع وفي نظام الحضارة العقليَّة والتشريعيَّة فإن الرسل الذين كانوا قبل موسى إنما بعثوا في أمم مستقلَّة، وكانت أديانهم مقتصرة على الدعوة إلى إصلاح العقيدة، وتهذيب النفوس، وإبطال ما عظم من مفاسدَ في المعاملات، ولم تكن شرائع شاملة لِجميع ما يُحتاج إليه من نظم الأمة وتقرير حاضرها ومستقبلها.
فأمَّا بعثة موسى فقد أتت بتكوين أمَّة، وتحريرها من استعباد أمة أخرى إياها، وتكوين وطن مستقل لها، وتأسيس قواعد استقلالها، وتأسيس جامعة كاملة لها، ووضع نظام سياسة الأمَّة، ووضع ساسة يدبرون شؤونها، ونظام دفاع يدفع المعتدين عليها من الأمم، ويمكِّنها من اقتحام أوطان أمم أخرى، وإعطاء كتاب يشتمل على قوانين حياتها الاجتماعية من كثير نواحيها، فبعثة موسى كانت أوّل مظهر عام من مظاهر الشرائع لم يسبق له نظير في تاريخ الشرائع ولا في تاريخ نظام الأمم، وهو مع تفوّقه على جميع ما تقدّمه من الشرائع قد امتاز بكونه تلقينا من الله المطَّلع على حقائق الأمور، المريد إقرار الصَّالح وإزالة الفاسد.
وجعل موسى وهارون مبعوثين كليهما من حيث إنّ الله استجاب طلب موسى أن يجعل معه أخاه هارون مؤيِّدًا ومُعربًا عن مقاصد موسى فكان بذلك مأمورًا من الله بالمشاركة في أعمال الرسالة، وقد بينته سورة القصص، فالمبعوث أصالة هو موسى وأما هارون فَبُعِثَ معينًا له وناصرًا، لأنّ تلك الرّسالة كانت أوّل رسالة يصحبها تكوين أمة.
وفرعون مَلك مصر، وقد مضى الكلام عليه عند قوله تعالى: {ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه} في سورة [الأعراف: 103]، وعلى صفة إرسال موسى إلى فرعون وملئه، وفرعون هذا هو منفطاح الثاني أحد فراعنة العائلة التاسعة عشرة من الأسر التي ملكت بلاد القبط.
والمرَاد بالملأ خاصَّةُ الناس وسادتُهم وذلك أنّ موسى بعث إلى بني إسرائيل وبعث إلى فرعون وأهل دولته ليطلقوا بني إسرائيل.
والسِّين والتَّاء في {استكبروا} للمبالغة في التكبّر، والمراد أنَّهم تكبَّروا عن تلقي الدعوة من موسى، لأنَّهم احتقروه وأحالوا أن يكون رسولًا من الله وهو من قوم مستعبَدين استعبدهم فرعون وقومه، وهذا وجه اختيار التَّعبير عن إعراضهم عن دعوته بالاستكبار كما حكى الله عنهم فقالوا: {أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون} [المؤمنون: 47].
وتفريع: {استكبروا} على جملة: {بعثنا} يدلُّ على أنّ كل إعراض منهم وإنكار في مدة الدعوة والبعثة هو استكبَار.
وجملة: {وكانوا قومًا مجرمين} في موضع الحال، أي وقد كان الإجرام دأبهم وخُلقهم فكان استكبارهم على موسى من جملة إجرامهم.
والإجرام: فعل الجُرم، وهو الجناية والذّنْب العظيم.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {وكذلك نجزي المجرمين} في سورة [الأعراف: 40].
وقد كان الفراعنة طُغاة جبابرة فكانوا يعتبرون أنفسهم آلهة للقبط وكانوا قد وضعوا شرائع لا تخلو عن جور، وكانوا يستعبدون الغرباء، وقد استعبدوا بني إسرائيل وأذلوهم قرونًا فإذا سألوا حقهم استأصلوهم ومثلوا بهم وقتلوهم، كما حكى الله عنهم: {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعًا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين} [القصص: 4]، وكان القبط يعتقدون أوهامًا ضالة وخرافات، فلذلك قال الله تعالى: {وكانوا قومًا مجرمين}، أي فلا يستغرب استكبارهم عن الحق والرّشاد، ألا ترى إلى قولهم في موسى وهارون: {إنّ هذان لَساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى} [طه: 63] فأغراهم الغرور على أن سموا ضلالهم وخورهم طريقة مثلى.
وعبر بـ: {قومًا مجرمين} دون كانوا مجرمين للوجه الذي تقدم في سورة البقرة وفي مواضع من هذه السورة.
{فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} أي لما رأوا المعجزات التي هي حق ثابت وليست بتخيلات وتمويهات، وعلموا أن موسى صادق فيما ادّعاه، تدرجوا من مجرّد الإباء المنبعث عن الاستكبار إلى البهتان المنبعث عن الشعور بالمغلوبية.
والحقُّ: يطلق اسمًا على ما قابل الباطل وهو العدل الصالح، ويطلق وصفًا على الثابت الذي لا ريبة فيه، كما يقال: أنت الصديق الحق.
ويُلازم الإفراد لأنه مصدر وصف به.
والذي أثبت له المجيء هنا هو الآيات التي أظهرها موسى إعجازًا لهم لقوله قبله: {ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا} [الأعراف: 103] فكان جعل الحق جائيًا بتلك الآيات صالحًا لمعنيي الحقّ، لأنّ تلك الآيات لما كانت ثابتة لا ريبة فيها كانت في ذاتها حقًا فمجيئها حصولُها وظهورها المقصود منه إثبات صدق موسى في رسالته فكان الحق جائيًا معها، فمجيئه ثبوته كقوله تعالى: {وقل جاء الحق وزهق الباطل} [الإسراء: 81] وبهذا يظهر أن لكلمة: {الحقّ} هنا من الوقع في الدلالة على تمام المعنى المراد، ولكلمة: {من عندنا} ما ليس لغيرهما في الإيجاز، وهذا من حدّ الإعجاز.